التراث هو مجموعة من المعدات والمواد وطرق الحياة التي تركها لنا الأجداد ولم يعد كثير منها مناسب لحياتنا في العصر الحديث , حيث التطور والسرعة والأجهزة الكهربائية التي لا حصر لها, وفي بدايات الثورة الصناعية في أوروبا قرر الإنسان الاستغناء عن كثير من الأدوات والتقنيات التراثية القديمة واستبدل بها أجهزة تعمل بالوقود البترولي ثم بالكهرباء, لكن مع تفاقم المشكلات الناتجة عن النفايات الصناعية والالكترونية الناتجة عن ذلك التطور, ظهر اتجاه يدعو إلى العودة بقوة إلى التقنيات التراثية في محاربة التلوث وحماية الموارد الطبيعية بتحقيق مبدأ الاستدامة, فليس التراث مجرد وسائل بدائية أو بيوت بتصميم عمراني لا يناسب التزايد الكبير في أعداد السكان ولا يفي باحتياجاتهم, فالتخطيط العمراني لكثير من المدن العالمية والعربية القديمة هو أفضل بكثير من تصميم المدن وهناك تقنيات في إعادة تدوير النفايات الصلبة.

يمكن القول إن سكان المدن العربية القديمة قد حققوا مبدأ الاستدامة من خلال الاستخدام الجيد للموارد والمتغيرات البيئية المحيطة بهم دون التسبب بتلوث البيئة , كما أن الأبنية التراثية المعتمدة على الحجر والطين هي أكثر موافقة لمعايير الأبنية الخضراء التي يتم الحديث عنها بكثيرة في أيامنا, كما أن انتشار الدين الإسلامي وتعاليمه التي تحث على الحفاظ على الموارد الطبيعية كان له أثر كبير في تصميم مدن صديقة للبيئة وتحافظ على الموارد إلى أقصى حد.

بعض التقنيات والوسائل التراثية القديمة في حماية البيئة وطرق توظيفها في المدن العصرية

في المجال العمراني:

يزخر التراث العمراني العربي والإسلامي بنماذج رائعة للتخطيط العمراني للمدن وكذلك للتصميم العمراني للمباني المنفردة, فمثلا نجد كثير من المدن العربية القديمة تتميز بضيق الطرقات في الأحياء السكنية حيث يتوسط تلك الممرات الضيقة ساحات تكون مخصصة للأسواق ويجتمع فيها أهل المنطقة السكنية في مناسباتهم, كذلك هناك الأسواق المسقوفة أو ما يعرف بالخان والتي تؤمن الحماية للمتسوقين من حرارة الشمس صيفا ومن المطر شتاءا وكذلك تعمل كقناة تهوية للمنازل الملتصقة بها في فصل الصيف. المواد المستخدمة في البناء كانت مواد عازلة فقد كان الطين أفضلها ,وأكثرها استخداما  ويأتي في المرتبة الثانية الحجر الصلب الذي استخدم لتشييد الأبنية في كثير من المدن الإسلامية والعربية العريقة, وفي التصميم الداخلي للمنازل ظهرت عدة  تقنيات منها فتحات التهوية ذات الجودة العالية والفناء الداخلي الذي غالبا ما كان يحتوي على  نافورة مياه أو ما يعرف بالبحرة بالإضافة إلى تزيين جنباته بالنباتات والورود وبعض الشجيرات, وكل ذلك كان يمنح الساكنين في المنزل جوا منعشا, وكانت جدران المنازل في كثير من المدن سميكة وهذا كان يؤمن العزل الحراري.

في مجال التخلص من النفايات الصلبة:

النفايات الصلبة لم تكن معضلة كبيرة في الماضي وخاصة مع عدم وجود المواد البلاستيكية بكثرة وانعدام وجود أي من المخلفات الصناعية أو الالكترونية في هذه النفايات ولذا فقد كانت النفايات المنزلية تجمع بواسطة الدواب ثم تنقل إلى عدة مكبات محيطة بالمناطق السكنية, وبمرور الوقت تتحول النفايات إلى سماد عضوي للأراضي الزراعية القريبة من المكب.

توفير مياه الشرب:

كان هناك مصدرين أساسيين لمياه الشرب أولهما المياه السطحية في الينابيع والأنهار وثانيهما ما كان يجمع من مياه الأمطار , وفيما يخص الينابيع يوجد في بعض المدن قنوات حجرية تحت أرضية كانت توصل المياه إلى كل منزل في المنطقة التي يغذيها ذلك النبع وقد ساعد مرور المياه أسفل المنازل والشوارع المظللة في توفير مياه معتدلة الحرارة طيلة أيام السنة بالإضافة إلى عدم الحاجة إلى مضخات  للمياه, لكن التقنية الأكثر نجاعة والتي كانت صالحة لكل المناطق هي تجميع مياه الأمطار في آبار تحت الأرض بحيث تحفظ المياه معتدلة الحرارة ونظيفة وقد تم تصميم هذه الآبار لتشبه حبة الإجاص في الغالب وذلك لحماية المياه من التقلبات الجوية وتقليل معدلات التبخر.

حفظ المواد الغذائية:

التجفيف والتدخين والحفظ بالملح أو تحت طبقة من الزيت أو الدهن الحيواني كلها كانت طرق سهلة وغير مكلفة لحفظ العديد من الأطعمة في الماضي وبرغم انها كانت تقلل من القيمة الغذائية لبعض أنواع الطعام إلا أنها كانت كفيلة بتوفير كميات مناسبة من الغذاء في المواسم التي تشح فيها المنتجات الزراعية, دون الحاجة إلى وجود ثلاجات.

من الجدير بالذكر أن الطاقة التجارية المعروفة في زمننا الحالي لم تظهر في غالبية المدن العربية إلا في نهايات القرن التاسع عشر أي قبل أقل من مئة وخمسين سنة فقط وأما قبل ذلك فقد اعتمد السكان في تنقلاتهم  وفلاحة أراضيهم وغير ذلك من المهام على الدواب وهذا يعني عدم إنتاج نفايات سائلة أو صلبة وانعدام الانبعاثات الملوثة لكن لا يمكن القول إن ذلك نوع من تقنيات توفير الطاقة وذلك للفرق الكبير في الإنتاجية والكفاءة بين الطرق البدائية المعتمدة بشكل أساسي على الدواب وبين الأجهزة الحديثة ذات الكفاءة والإنتاجية العالية, وهذا يعني أن التراث لا يمكن أن يكون الحل لكل مشاكلنا البيئية فلا بد من التطور الدائم في الوسائل والتقنيات لمواكبة الزيادة السكانية والتوسع العمراني الكبير في المدن العربية.

لم تكن هناك مشكلة كبيرة لدى سكان المدن والمناطق الريفية على حد سواء في التخلص من المياه العادمة وذلك لأنها مثل النفايات الصلبة لم تكن تحتوي على منظفات صناعية سامة أو ضارة بالبيئة, كما أن المكيات المنتجة من كل منزل لم تكن كبيرة, ولذا تم الاعتماد بشكل أساسي على الحفر الامتصاصية  التي كانت كافية لتجميع المياه العادمة  وتسريبها داخل الأرض.

يمكن القول إن المجال العمراني هو أفضل المجالات التي يمكن الاستفادة من التراث فيها وذلك للنهضة العمرانية العملاقة التي شهدتها العصور المشرقة في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية , كذلك لا يمكن إغفال الحلول الذكية التي استعملت لنقل مياه الشرب ضمن قنوات من الحجر بعيدا عن حرارة الشمس أو جمع مياه المطر في آبار مصممة لحفظ حرارتها وغيرها من التقنيات التراثية التي يمكن توظيفها لخدمة الجهود الرامية إلى تحقيق مبدأ الاستدامة وتطبيق معايير البناء الأخضر.